موضوع: التوبة - الله سبحانه وتعالى يحب عباده المؤمنين، الأربعاء مارس 12, 2014 12:35 pm
الله سبحانه وتعالى يحب عباده المؤمنين، والمؤمنون يحبونه، وأن أسباب محبته جل جلاله تنعقد في آيات عدة، الآية الأولى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)﴾ [سورة المائدة] وقد أشير إلى بعض ما تنطوي عليه هذه الآية في الخطبة السابقة واليوم السبب الثاني الذي يدعو إلى محبة الله لك التوبة لقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾ [سورة البقرة] والتوَّاب: صيغة مبالغة، يعني كثير التوبة، كثير التوبة عدداً ونوعاً. لقد انعقد الإجماع بين الأمة على وجوب التوبة، فرض على كل مؤمن، لأن الذنوب مهلكة، وتبعد العبد عن الرب، فيجب التخلص منها على الفور، ولن يكون ذلك إلا بالتوبة. انعقد إجماع الأمة على وجوب التوبة لأن الذنوب مهلكة، يجب التخلص منها على الفور، ولا يكون ذلك إلا بالتوبة، والأدلة، ربنا جل جلاله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (﴾ [سورة التحريم] كل أمرٍ في القرآن يقتضي الوجوب. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ كل أمر في القرآن يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، والآية الثانية: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) ﴾ [سورة النور] والآية الثالثة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾ وعن ابْنَ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ".)) [أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود] وفي الصحيحين: ((" لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ".)) [متفق عليه] وفي رواية لمسلم: ((" فأخذ بخطامها (أي بزمامها) ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك ".)) أخطأ من شدة الفرح. كم يكون فرح هذا الأعرابي بناقته، لله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته. التوبة النصوح استغفار باللسان، وإقلاع عن الذنب، والعزم على أن لا يعود إليه إطلاقاً، هذا بعض تعاريف التوبة النصوح. والتوبة النصوح في تعريف آخر: التوبة المقبولة، ولا تُقبل إلا في ثلاثة شروط، الشرط الأول: أن يخاف التائب أن لا تُقبل، والشرط الثاني: أن يرجو أن تُقبل، والشرط الثالث: أن يدمن على الطاعات. وفي تعريف ثالث للتوبة النصوح: أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك، وتكون كالثلاثة الذين خُلفوا. هذا من تعاريف التوبة النصوح. ومن تعاريف التوبة النصوح أن يكون لصاحبها دمع مسفوح وقلب عن المعاصي جموح. ومن تعاريف التوبة النصوح قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي: ((" عن أنس كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ".)) الأنبياء وما سوى الأنبياء غير معصومين، غير المعصوم ماذا عليه أن يفعل، عليه أن يكون تواباً.. كثير التوبة، كلما أخطأ بلسانه، وكلما أخطأ بيده، وكلما أخطأ بجوارحه عليه أن يتوب إلى الله من فوره. الإنسان إذا وقع في خطيئة، وفُتح له باب التوبة على مصاريعه ووعده الله بقبولها ماذا ينتظر.. لأن الله عز وجل يقول: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)﴾ [سورة التوبة] ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) ﴾ [سورة المؤمنون] نقطة دقيقة جداً في موضوع التوبة ؛ التوبة التي ينبغي أن تكون هي التوبة السريعة التي تأتي بعد الذنب مباشرةً. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(17)﴾ [سورة النساء] أقصر وقت بين الذنب وبين التوبة، لذلك المسارعة إلى التوبة من شروط قبولها، أما الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وإذا قسا القلب فقد جاء كساد الران، قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)﴾ [سورة المطففين] النادم ينتظر من الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يشير إلى المسارعة إلى التوبة: ((" النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله، أن كل عامل سيقدم على عمله، وإنما الأعمال بخواتيمها والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة، واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة، ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شرك نعله، ثم قرأ قوله تعال فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ".)) يعني من أسباب قبول التوبة، ومن أسباب سهولة التوبة أن تتوب من قريب، أن تتوب فور وقوع الذنب مباشرةً، أن لا تجعل أمداً طويلاً بين الذنب وبين التوبة، عندئذ يقسو القلب، والإنسان بشكل أو بآخر يُطبق عليه قانون العطالة، قانون العطالة قانون فيزيائي الأجسام ترفض الحركة إذا كانت ساكنة، وترفض السكون إذا كانت متحركة فمن ألف معصية واستمر عليها، يصعب عليه تركها، أما حينما تقع المعصية بغفلة من صاحبها، وسرعان ما يصحوا ويتوب إذا جاءت التوبة عقب الذنب شعر التائب أن الله قد قبله، وأن توبته مقبولة عند الله عز وجل. المسارعة إلى التوبة والندم ألزم وأحزم من الانتظار إلى الغد والغد قد لا يأتي، ومن عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت. صاحب مطعم حج بيت الله الحرام، وكان يبيع الخمر في مطعمه فلما عاد من الحج تاب من بيع الخمر فانخفضت الغلة انخفاضاً شديداً فعاد إلى بيع الخمر، وبعد عشرة أيام وافته المنية وهو مقيم على معصية بيع الخمر. من عد غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، وفي الأثر هلك المسوفون، الذي يقول أتوب غداً، وبعد غد وبعد أن ينتهي العام الدراسي، وبعد أن ينتهي الصيف، وبعد أن أتزوج، وبعد أن أشتري البيت، وبعد أن أؤسس هذا المشروع، هؤلاء المسوفون هلكوا لأن الدهر كله غداً. ومن الأدلة النبوية على وجوب سرعة التوبة قول الله عزو جل في الحديث القدسي عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا و حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ ".)) [أخرجه مسلم وأحمد] وفي الحديث القدسي الذي رواه النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه وهذا الحديث من أرجى الأحاديث في التوبة: ((" يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك يا بان آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني عفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ".)) أيها الإخوة الكرام: لماذا لا نطير إلى الله بأجنحة الشوق والمحبة بدلاً أن نُساق إليه بسياط الشدة والرحمة، لابد من أن تصل إليه، فإما أن تأتيه طائعاً على أجنحة الشوق والمحبة، وإما أن تأتيه على بسياط الشدة والرهبة الطريق الأول أسلم وأكمل. الشيء الدقيق جداً هو أن الإسلام دين الفطرة، وأنه دين الواقع وكل شهوة أودعها الله في الإنسان جعل لها قناة نظيفة تجري خلالها، إذاً ليس هناك حرمان لك أن تتزوج، ولك أن تأكل وتشرب، ولك أن تنام وتستريح، ولك أن تأكل ما تشتهي لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((" أشدكم لله خشية أنا، أنام وأقوم، أصوم وأفطر، أتزوج النساء آكل اللحم، هذه سنتي فمن رغب عنها فليس من أمتي ".)) ليس في الإسلام حرمان، في الإسلام تنظيم، هناك منهج دقيق يلبي حاجات الجسد، وحاجات النفس، وحاجات العقل، هؤلاء الذين يسقطون في المعاصي والآثام يسقطون في الوحول، يسقطون في القاذورات، هؤلاء الذين يرتادون أماكن اللهو يبحثون عن سعادة موهومة، ولو علموا أن سعادتهم بالقرب من الله، وأن سعادتهم بتطبيق منهج الله. شيء آخر في هذا الموضوع، ربنا سبحانه وتعالى ينتظرنا كي نتوب إليه، يقبل علينا أكثر من إقبالنا عليه، نحن مطلوبون عنده أكثر مما نحن طالبين له، وفي الحديث الصحيح: ((" أنا عند ظن عبدي بي، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن آتاني يمشي أتيته هرولة ".)) يعني بمجرد أن تنقعد التوبة في نفس المؤمن يرى راحة لا توصف يرى ثقلاً أزيح عن كاهله، وكان كابوساً عليه، يشعر بطمأنينة يشعر أن الله قبل توبته. أبواب التوبة مفتوحة على مصاريعها، ولا نستفيد من هذه الأبواب المفتوحة إلا ونحن في الدنيا، فإذا اقترب الإنسان من ساعة مغادرته الدنيا عندئذ لا تنفعه التوبة. علمنا النبي عليه الصلاة والسلام أدعية كثيرةً يحضنا فيها على التوبة، من أدعيته صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي (أي أعترف بذنبي) فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.)) في هذا الموضوع تتمة نطرحها في الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين. الخطبة الثانية: قبل شهر تقريباً عدت أخاً مريضاً له باع طويل في التأليف، روى لي قصة الحجاج بن علاط السملي، وتأثر بها تأثراً بالغاً واستنبطت منها أشياء كثيرة تعيننا على أمر ديننا، وأهداني هذا الأخ الكريم الكتاب بأجزائه التي وردت فيه هذه القصة، أحببت في هذا الأسبوع ان أعرضها على مسامعكم. قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر الحجاج بن علاط السملي فأسلم، وكان هذا الرجل غنياً كثير المال، فقال يا رسول الله إن مالي عند امرأتي أم شيبة بنت أبي طلحة بمكة، ومتفرق في تجار مكة، فأذن لي أن آتي مكة لآخذ مالي قبل أن يعلموا بإسلامي، فإن علموا بإسلامي لا أقدر على أخذ شيء منه، أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى مكة ليجمع ماله المتفرق بين تجار مكة، ثم قال: يا رسول الله، لابد من أن أقول شيئاً، كلام موجز، فهم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، أي لابد من أن أتقول عليك، وأذكر ما هو خلاف الواقع، أي ما أحتال به لأسترد مالي فقال صلى الله عليه وسلم بطيب نفس: قل ما بدا لك. قال الحجاج: فخرجت حتى قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء (مكان) رجالاً من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز المنيعة، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان، وكان بينهم تراهن عظيم وتبايع منهم، منهم من يقول يظهر محمد وأصحابه ومنهم من يقول يظهر الحليفان ويهود خيبر. فلما رأوا الحجاج قالوا: الحجاج عنده والله الخبر، ولم يكونوا قد علموا بإسلامه، قالوا: يا حجاج بلغنا أن القاطع ـ هكذا كانوا يلقبون النبي عليه الصلاة والسلام أخزاهم الله ـ يا حجاج بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر. فقال الحجاج: عندي من الخبر ما يسركم، فاجتمعوا يقولون: إيه يا حجاج فقال الحجاج: لم يلق محمد وأصحابه قوماً يحسنون القتل غير أهل خيبر، فهزم هزيمةً لم يسمع بمثلها قط، وأسر محمد وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فنقتله بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم فصاحوا وقالوا لأهل مكة قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما تنتظرون أن يُقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم، قال الحجاج: فقلت لهم أعينوني على غرمائي، أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك، فجمعوا لي مالي على أحسن ما يكون ففشا ذلك بمكة، وأظهر المشركون الفرح والسرور وانكسر من كان بمكة من المسلمين، وسمع بذلك العباس ابن عبد المطلب، ماذا حصل ؟ فجعل لا يستطيع أن يقوم من مرقده من شدة الألم والحزن، ثم بعث العباس إلى الحجاج علاماً، قال قل له: يقول لك العباس إن الله أعلى وأجل من أن يكون الذي جئت به حقاً، (هذا حسن الظن بالله) فقال الحجاج للغلام: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي بعض بيوته لآتيه بالخبر على ما يسره، واكتم عني، فأقبل الغلام وقال أبشر أبا الفضل، فوثب العباس فرحاً. خبر واحد أقعده عن القيام، شُلت قواه، وخبر وآخر جعله يثب من الفراش، أبشر أبا الفضل فوثب العباس فرحاً كأنه لم يصبه شيء وأخبره بذلك فأعتقه العباس، وقال لله علي عتق عشر رقاب، فلما كان ظهراً جاء الحجاج فناشده الله أن يكتم عنه ثلاثة أيام، وقال إني أخشى الطلب، فإن مضت ثلاث فأظهر أمرك، فوافقه العباس على ذلك وقال الحجاج إني قد أسلمت وإن لي مالاً عند امرأتي وعند غرمائي في قريش، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوه إليه، إني تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وجرت سهام الله وسهام رسوله فيها، وتركته عروساً بابنة ملكهم حيي ابن أخطب فلما أمسى الحجاج غادر مكة. وطالت على العباس تلك الليالي الثلاث، فلما مضى الحجاج ومضت الثلاث، عمد العباس إلى حلة جديدة لبسها، وتخلق بخلوق (تعطر) وأخذ بيده قضيباً ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل، هذا والله التجلد بحرِّ المصيبة، قال كلا والله الذي حلفتم به لم يصبني إلا خير بحمد الله، لقد أخبرني الحجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله وجرت فيها سهام الله وسهام رسوله، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت ملكهم حيي بن أخطب لنفسه، وأنه تركه عروساً بها وإنما قال لكم ذلك ليخلص إلى ماله، وإلا فهو ممن أسلم، فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين. فقال المشركون: ألا يا عباد الله، أنفلت عدو الله ـ يعنون حجاجاً ـ أما والله لو علمنا الحقيقة لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر الصحيح. أيها الإخوة الكرام: دققوا في حسن ظن العباس بالله، (إن الله أجل وأكرم من أن يكون هذا الخبر صحيحاً) إن الله لا يتخلى عن عباده المؤمنين، لا يتخلى عن رسوله، ولا عن أنبيائه ولا عن المؤمنين الذين آمنوا به واستقاموا على أمره. وشيء آخر هي رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه والمال قوام الحياة. وشيء ثالث هو أن الخبر السيئ يشل القوى، بينما الخبر الطيب يبعث النشاط.